صدر أخيراً كتاب جليل في موضوعه، ماتع في بنائه ومنهجه، نفيس فيما أفصح عنه من نتائج في مادته العلمية الغزيرة العميقة، وفي طباعته الفاخرة المعتنى بها حتى تكون في مستوى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من جلال الموضوع وقدره لغاية بناء منظومة حضارية فكرية فريدة للأمة بعيداً عن الزيغ، وعن الذوبان في الغير. ناهيك عن القيمة العلمية لمؤلفه في مجال تعميق البحث العلمي الرصين في الجامعة المغربية؛ فهو جمع بين الدراسة في المغرب والشرق العربي على يد أساطين خدام التراث والتأصيل اللغوي؛ وأعني الكاتب والناقد والباحث المغربي في مجال البلاغة والنقد الدكتور العميد عبد الجليل هنوش(حفظه الله ورعاه)؛ والكتاب تحت عنوان" التأسيس اللغوي للبلاغة العربية( قراءة في الجذور) " وهو تعزيز للدراسة والبحث التي سلك سبيلها لغاية استخلاص نتائج مهمة أسس بها لما بات يعمل من أجل تطوره، وما ظل يكتبه في منشورات مهمة في مجالي التأصيل بمعنى التأثيل اللغوي، وتعميق البحث الأكاديمي في التأسيس اللغوي؛ وبخاصة منشورات مميزة ودراسات وبحوث عميقة نشرها في مجموعة من المجلات العلمية المحكمة. وهذا الكتاب يسير على نهج مؤلف نحث في الجذور هو أيضا سبق أن نشره تحت عنوان" ابن طباطبا العلوي والتصور التداولي للشعر ". وكتاب" التأسيس اللغوي للبلاغة العربية( قراءة في الجذور ) " من منشورات" دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع " بعمان التي لا تنشر إلا ما هو نفيس بفضل توجهها الذي » يستند إلى موروث نقيّ وواضحٍ بثقافة أصلية قادرة على التمازج والتفاعل مع مواكبة كل ما هو جديد في عالم المعرفة « ؛ عدد صفحاته (360) صفحة من القطع الكبير.
والكتاب في الأصل- كما ورد في ثناياه – أطروحة لنيل الدكتوراه بكلية الآداب، جامعة القاهرة؛ نوقشت يوم 17/12/1991، أشرف عليها الكاتب والمفكر وزير الثقافة المصري الأسبق الأستاذ الدكتور جابر عصفور، وناقشها أستاذ علوم اللغة وسفيرها في الجامعات الغربية والعربية الدكتور محمد فهمي حجازي وأستاذ العلوم اللغوية الدكتور عبده الراجحي(رحمه الله) الذي حلاها قبل مناقشته بقول ثمين وهو صادق فيه »إنها أفضل رسالة قرأها في السنوات العشر الأخيرة « .
ولما أراد الدكتور عبد الجليل هنوش طبع رسالته أو كتابه هذا اليوم حرص على أن تبقى الرسالة على صورتها الأصلية التي نوقشت بها، ولم يغير فيها إلا أشياء قليلة جداً في مواضع محدودة كما ذكر. وقد بشر بأن للكتاب تكملة ستظهر- إن شاء الله – في كتاب سيكشف فيه عن لون آخر من ألوان التأسيس البلاغي.
وقد ناب المؤلف عن القارئ والباحث- فبل أن يفتح دفتي الكتاب - فكثف له بتركيز متضمن بحثه، وحدد له مساره في مجال البلاغة، وأبان له عن طبيعته، ومنطلقات علمية ومنهجية أسسه عليها، وهي تتمثل في صورة رؤية علمية الغاية منها تجاوز نقص واضح في الموضوع، وبالتدقيق تجاوز ما هو كائن- قديم وجديد – إلى ما ينبغي أن يكون بدراسة علمية كشفت عن جوانب أغفلتها القراءات التقليدية والبنيوية وهي تدرس نشأة البلاغة؛ وذلك في فقرتين تبثهما المؤلف على صفحة الغلاف الثاني للكتاب قائلا:
»يتناول هذا الكتاب مرحلة هامة من مراحل تأسيس البلاغة العربية، وهي مرحلة التأسيس اللغوي التي شهدها القرن الهجري الثاني. وقد حاولنا أن ننظر إلى هذه المرحلة نظرة نسقية تجعل الآراء البلاغية للغويين منتظمة ضمن النسق اللغوي العام الذي انشغلوا بتأسيسه، والذي كان بالأساس نسقا وظيفيا، لا يرى اللغة إلا من خلال استعمالها، ولا يفهمها إلا بارتباط بسياقها وأحوال مستعمليها. كما نظرنا إليها نظرة تتسم بالدينامية لا ترى المرحلة في وضعها الثابت والاستاتيكي وإنما من حيث هي أفق تأسيسي يتفاعل مع وعينا المعاصر باللغويات والبلاغيات. ولذلك كانت اللسانيات الوظيفية والتداولية سندنا المرجعي في فهم المرحلة وإعادة بنائها. وقد مكننا منهجنا هذا من الكشف عن الجوانب التي أغفلتها القراءات التقليدية والبنيوية لنشأة البلاغة لمخالفتنا لها في الأسس النظرية والمنهجية، كما أسعفتنا هذه النظرة النسقية والدينامية في صياغة عناصر التأسيس الأول للبلاغة الذي كان تأسيسا لغويا قويا ومتميزا أثثر تأثيرا كبيرا في مجمل تاريخ البلاغة العربية.
» ونحن عاكفون على دراسة المرحلة التأسيسية التالية للبلاغة العربية بذات النظرة النسقية والدينامية التي اشتغلنا بها هنا وعسى أن يرى الكتاب الثاني الذي يكمل منظورنا لتأسيس البلاغة العربية النور قريبا «.
والكتاب جدير بالبحث عنه وقراءته قراءة متأنية، وكذا الاطلاع على محتواه بروية وتبصر، والكشف عما فيه مما أجزم إنه الأسس النظرية التي تبلورت لغاية تشكيل مدرسة في الدراسة والبحث في البلاغة والنقد في المغرب الحديث والمعاصر، وهي مدرسة لها جذور، ولها براعم تشكل نوعا من التطور والامتداد يرعاها الدكتور عبد الجليل هنوش(حفظه الله) وتؤسس لنهضة علمية جذورها في الجامعة المغربية وفروعها في أنحاء المعمورة الناطقة بلغة الضاد إن شاء الله.